اتقوا الله حق تقاته
ورد في سورة آل عمران قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ). وقد أشار محمد أبو زهرة في كتابه “زهرة التفاسير” إلى أن هذا الأمر بالتقوى جاء موجهًا للمؤمنين، ليدلل سبحانه على العلاقة الوثيقة بين التقوى والإيمان؛ إذ إن التقوى تعد من مقتضيات الإيمان ونتائجه، وهي الهدف الأسمى من الإيمان ذاته.
تعني “اتقوا الله حق تقاته” بالدرجة التي تقتضي التقوى لله -تعالى-، وهو الحق الثابت الذي يجب أن يستمر دون انقطاع. تشير هذه الآية أيضًا إلى علو الواجب الذي يتطلبه التقوى لله عز وجل، فحق التقوى هو تلك التقوى التي ترتقي إلى مقام الله ذو الجلال والإكرام، الذي يتميز بصفات الكمال. وقد فسرها الزمخشري بالالتزام بالواجبات والابتعاد عن المحارم.
أما ابن عباس -رضي الله عنهما- فقد فسرها بقوله: “أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالعدل حتى على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم”. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: “هو طاعة الله وعدم العصيان، وشكره وعدم الكفر، وذكره وعدم النسيان”. بينما قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: “لا يمكن للعبد أن يتقي الله حق تقاته حتى يشعر الحزن من لسانه”.
علاقة آية “اتقوا الله حق تقاته” بآية “فاتقوا الله ما استطعتم”
في سورة التغابن، قال -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ}. تتعلق هذه الآية آية آل عمران، حيث رأى البعض من العلماء، مستندين إلى روايات عن السلف، أن آية التغابن قد نسخت آية آل عمران، وذلك بسبب شدة الآية الأولى، بينما جاء في الثانية التخفيف واليسر.
ومع ذلك، قال آخرون: إن آية آل عمران محكمة وغير منسوخة، حيث يمكن الجمع بين الآيتين دون تعارض، إذ إن حق التقوى يتطلب اجتناب النواهي وفعل الأوامر. وبالتالي، المطلوب في كلا الآيتين هو بذل جهد في ذلك، مما يمثل جوهر التقوى.
وتعني عبارة “حق تقاته” التقوى الحقيقية والصادقة التي ينبغي للعبد أن يسعى لتحقيقها قدر استطاعته. في هذا السياق، لا يوجد تعارض بين الآيتين. فقد نزلت آية آل عمران مما دفع بعض الصحابة إلى تكثيف عباداتهم حتى أصبح ذلك ثقيلًا عليهم، فأنزل الله التخفيف في آية سورة التغابن، مشيرًا إلى أن التقوى ينبغي أن تكون بما يتناسب مع الاستطاعة.
مفهوم التقوى
تعتبر التقوى في اللغة تعني “قلّة الكلام”، لكنها تُستخدم بمعنى أوسع يشمل الصيانة، والحذر، والوقاية، واجتناب المحرّمات. أما في الاصطلاح، فتعني التحفظ من عقوبة الله من خلال طاعته واتباع أوامره والابتعاد عن محارمه. وذُكر أن أصل معنى التقوى هو “الحذر”، مأخوذ من “اتّقيت الشيء”، حيث يمثل العمل الذي يقيم وقاية بين العبد وما يخشاه. ودائرة التقوى الشاملة تشمل: القيام بالواجبات والمندوبات، وترك المحرّمات والشبهات، مما يُعد أعلى درجات التقوى.
تعددت تعريفات التقوى، فقال البعض أنها “العمل بطاعة الله على نورٍ منه مع رجاء الثواب، وترك المعصية على نورٍ من الله مع خوف العقاب”، بينما عرّفها ابن القيم بأنها “العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا أمرًا ونهيًا”. كذلك، عرّف علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- التقوى بأنها “ترك المعصية وعدم الغفلة بالطاعة، وهي التي تقي من النار وتؤدي إلى الفوز بالجنة، وغايتها الابتعاد والشرك، وأوسطها اجتناب الحرام”.
وسائل تحصيل التقوى
هناك العديد من الوسائل لتحقيق التقوى، ومنها:
- تعزيز مكانة الله -تعالى- في القلب عبر محبته وخشيته.
- محاسبة النفس والانضباط معها، ومراقبتها في السر والعلانية.
- الالتزام بالواجبات والمندوبات وترك المحرمات.
- زيادة العبادة وأداؤها بكل إتقان.
- الجدية والالتزام بتطبيق الشريعة.
- إقامة الشعائر الإسلامية وتعظيمها، والتمسك بمكارم الأخلاق.
- تعظيم النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وتوقيره.
- التحلّي بالعدل والعفو، والإكثار من الصيام.
في الختام، يتناول المقال أبرز تعريفات التقوى، إذ تسعى إلى تشكيل حاجز بين العبد والنار، بالإضافة إلى تفسير بعض آيات التقوى وعلاقتها ببعضها، وتأثيرها الإيجابي على المسلم، مما يجعله أكثر مراقبة لله -تعالى-، ومحاسبة نفسه، وتعزيز حرصه على طاعة الله والابتعاد عن المحظورات.