تأملات حول الاستشراق، ذلك النظام الذي أُسس خصيصاً لدراسة مختلف جوانب دول الشرق الأوسط، سعياً لفهم أعمق لغزو الاستعمار الأوروبي والأمريكي.
مقدمة عن الاستشراق
يشكل الاستشراق نظاماً يتضمن أهدافاً سياسية للدول الاستعمارية، حيث يركز على دراسة الأديان واللغات والتاريخ والفلسفة والأدب والفنون في الدول المستعمَرة.
وفي السياق ذاته، يعكس هذا النظام النظرة السائدة تجاه الشرق الأوسط، وسنوضح معناه من خلال النقاط التالية:
- يعكس الاستشراق بروز حركات جمالية وفنية في مجال الرسم، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إبان الاحتلال الفرنسي لمصر.
- كما يتضمن دراسة جميع دول الشرق الأوسط خلال فترات الاستعمار، بغرض إنشاء مؤسسات علمية وتجارية تابعة للدول الأوروبية.
- يوحي المفهوم بإنتاج خطاب ثقافي نتج عن الاستعمار الأوروبي والأمريكي في القرن التاسع عشر، ويتضمن التصورات الفكرية والثقافية لدول الشرق الأوسط.
- كذلك يعكس الاستراتيجيات التي وضعت للسياسة الخارجية، وتسليط الضوء على أبرز التدخلات في دول الشرق الأوسط باعتبارها دولاً إسلامية.
أصل الاستشراق
من الضروري التنويه إلى أن الاستشراق يسعى لإظهار جميع الأيديولوجيات المخططة دولياً بشأن دول الحضارات ومهدها، ومنها دول الشرق الأوسط.
وذلك في سياق الجهود لتحقيق الأهداف المرتبطة بتغيير الثقافات السائدة، وإيجاد توافق مع الثقافة الغربية في مجالات التعليم والحياة وطرق التفكير. ومن خلال هذا السياق، نستعرض نشأته كما يلي:
- عُرف عن الاستشراق أنه تزامن مع نهضة قارة أوروبا في المجالات العلمية والصناعية في بداية القرن السادس عشر وما بعده.
- واتضح ذلك جلياً بعد تأسيس عدة جمعيات تعنى بالمجال العلمي، مما ساهم في ظهور نظام الاستشراق.
- ومن بين هذه الجمعيات: “الجمعية الأمريكية الاستشراقية”، و”الجمعية البنغالية العلمية”، و”الجمعية الملكية الآسيوية البريطانية”.
- وقد وجهت هذه الجمعيات اهتمامها نحو البحث واستكشاف الحضارة في دول الشرق.
- ووفقاً لما ورد في كتاب “ولادة الاستشراق”، فإن ظهوره يعود إلى القرن الثامن عشر مدفوعاً بالأسباب والدوافع الاقتصادية، حيث كانت لليابان والصين أهمية كبيرة في هذا السياق بسبب التركيز على الهند.
مراحل الاستشراق
في سياق بحثنا عن الاستشراق، نعرض أبرز مراحله كما يلي:
الاستشراق أثناء الحروب الصليبية
- خلال الحروب الصليبية، التي بدأت في عام 1096 واستمرت حتى عام 1891، جرت دراسة تفكير وسلوك سكان الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص المسلمين.
- نتيجة لعدم تمكّن الدول الغربية من اللغة العربية، فإنها عانت من صعوبة فهم الدين الإسلامي ومفاهيمه، وهو ما ساهم في انتشار العديد من الصور النمطية السلبية عن الإسلام بين المستشرقين.
- في تلك المرحلة، أظهرت الجمعية استنتاجات تفيد بأن “الإسلام هو دين ثقافي نشأ عن مجموعة من الجاليات العربية، وتم نشره استناداً للأبعاد الاقتصادية فقط، كما رُوج لمعاني تتعلق بالعنف”.
الاستشراق في عصر النهضة
- خلال ذلك العصر، نُظمت دراسات حول دول الشرق من منظور الدين والسياسة، معتبرة أن العقائد الدينية مرتبطة بالسلبيات والمعاناة البشرية.
- نتج عن ذلك اتساع الدراسات التنموية بهدف تغيير منهج التفكير من الإيمان بالعقائد إلى اعتماد العقل كأداة رئيسية.
- خلال تلك الفترة، اشتهرت مفاهيم دراسية جديدة، مثل “استخدام الفلسفة الوضعية والعقلانية”.
الاستشراق في فترة الاستعمار
- في هذه المرحلة، برز الاستشراق بشكل واضح خلال فترة الغزو الاستعماري.
- تحت غطاء حل الأزمات الداخلية بأسلوب علمي، استند الاستشراق إلى تأسيس شركات كبيرة، مثل “شركة الهند الشرقية”، التي أصبحت نقطة انطلاق للرأسمالية.
- كما تم التركيز على نشر المسيحية عبر المستعمرين، وبخاصة البريطانيين، مع محاولات لإقناع المواطنين بالتخلي عن معتقداتهم التقليدية.
- تم تبني نظام تعليم غربي وعلماني يوضح الفروق بين المعرفة العلمية والدينية.
أهداف ودوافع الاستشراق
في إطار استعراض أهداف الاستشراق ودوافع ظهوره، يمكن تلخيصها كما يلي:
- الهدف الديني: يتجلى من خلال إقامة بعثات تبشيرية، بما في ذلك ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية، إذ تعتبر معرفته أساسية في الجهود التبشيرية.
- الهدف العلمي: يهدف إلى فهم إنجازات الشرق، وبالأخص الحضارات التي كانت أساس النهضة.
- الهدف الثقافي: يسعى لنشر الثقافات الغربية في محاولة للحد من أهمية اللغات الخاصة بدول الشرق الأوسط.
- الهدف الاقتصادي: رغبة ملحة لدى الدول الغربية للاستفادة من الموارد الطبيعية الثمينة في دول الشرق والتعرف عليها.
- الهدف السياسي الاستعماري: يبرز الارتباط بين الاستعمار والاستشراق، حيث يُعتبر الاستشراق أداة لتعزيز موقف الاستعمار ودعمه من خلال نشر الأكاذيب حول الشعوب المنهارة.
أبرز المستشرقين عبر التاريخ
نتعرف في تحت سياق بحث الاستشراق على أبرز الشخصيات المستشرقة على مر التاريخ، وهم كالتالي:
- أرماند أبل (1903-1973): مستشرق بلجيكي كان مهتماً بشكل خاص بخلافات المسلمين والنصارى، كما درس السياسة المعاصرة في الشرق الأوسط.
- أرينيوس (1584-1624): مستشرق هولندي يُعتبر من أبرز المترجمين للعلوم من العربية إلى اللاتينية.
- سكيابرلي (1841-1919): قام بترجمة العديد من النصوص من العربية إلى اللاتينية، وهو إيطالي الأصل.
- أستبانث كلدرون (1799-1876): أحد المستشرقين الذين شغلوا مراكز رفيعة المنزلة، حيث كان على دراية بالسياسة والأدب.
- اسخولتنز (1686-1750): هولندي الأصل صاحب دور مهم في العمليات التبشيرية، وقد درس اللاهوت وأجيد عدة لغات منها العربية.
- اشبرنجر (1813-1893): نمساوي معروف بتخصصه في دراسة الجوانب العقدية، حيث كتب عن النبي محمد ﷺ.
أشهر الكتب عن الاستشراق
في أعقاب الدراسات التي أجريت حول دول الشرق الأوسط، أُصدرت عدة كتب تُضيء على موضوع الاستشراق، ومن بينها:
- كتاب “الاستشراق” للكاتب إدوارد سعيد، الذي يتناول فيها جميع الأساليب التي استخدمها الغرب لمكافحة الشرق على مدى 2000 سنة، مستنداً إلى استنتاجات تدحض مزاعم المستشرقين.
- المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية من تأليف إسماعيل عمايرة، حيث يناقش فيه دوافع دراسة اللغة العربية لتحقيق الأهداف الاقتصادية والسياسية.
- المستشرقون وتاريخ صلتهم بالعربية: بحث في الجذور التاريخية للظاهرة الاستشراقية لإسماعيل عمايرة، حيث يستعرض الأسس التي بُني عليها هذا الفكر وتحليل العلاقة بين الإسلام والغرب.
خاتمة حول الاستشراق
- من المؤكد أن الدراسات التي أعدها المستشرقون لم تكن مبنية على علم وخبرة حقيقية، بل كانت تستند لأهداف سياسية واقتصادية.
- بالإضافة إلى أن الترجمة التي قاموا بها كانت تفتقر إلى الدقة والتركيز، وغالباً ما اتسمت بالتشويه.
- الهدف الرئيسي للاستشراق كان دراسة “العدو” عن كثب كجزء من استراتيجية معمقة لمناقشة واقعهم.
- حيث دعمت دراساتهم رؤى مبنية على أفكار ومعتقدات المواطنين في الشرق الأوسط، مما شكل مدخلاً للتأثير عليهم.