أول شخص يجهر بقراءة القرآن الكريم
كان النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يجهر بقراءة القرآن في مكة دون خوف من أذى قريش. ومع أن الصحابة لم يتمكنوا من فعل ذلك، إلا أن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بادر بذلك، ليصبح أول من جهر بآيات القرآن الكريم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. موسى العازمي (2011)، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (الطبعة الأولى)، الكويت: المكتبة العامرية، صفحة 277، جزء 1. بتصرّف.
قصة الجهر الأول بالقرآن
كان مشركو قريش يتجنبون سماع القرآن الكريم، خوفًا من تأثيره عليهم، ولذلك عذبوا كل من جهر به. وفي أحد الأيام، اجتمع المسلمون وتساءلوا من يمكنه الجهر بالقرآن في ظل هذا الخوف، فأجابهم عبد الله بن مسعود: “أنا سأفعل”. لكن الصحابة أعربوا عن قلقهم عليه، مؤكدين ضرورة وجود من يحميه من أذى قريش. إلا أن عبد الله -رضي الله عنه- طمأنهم بأن الله سيحميه. في صباح اليوم التالي، ومع وجود مشركي قريش عند الكعبة، ذهب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- إلى المقام ورفع صوته بقراءة سورة الرحمن. عندما بدأ أهل قريش يتساءلون عما يقرأ، سرعان ما تبيّن لهم أنه يقرأ القرآن، فتوجهوا إليه وضربوه. ولكن، رغم ما تعرض له من ضرب، عاد عبد الله -رضي الله عنه- إلى أصحابه، وعلامات الضرب واضحة على وجهه، وقال لهم إنه مستعد للعودة في اليوم التالي لفعل ما فعله مجددًا. لكنهم نصحوه بعدم تكرار ذلك لأنه جعلهم يسمعون ما يكرهون.
الدروس المستفادة من قصة الجهر بالقرآن
تعكس قصة جهر عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بالقرآن عدة أمور مهمة، بيانها كالتالي:
- ضرورية إخفاء العبادات في الغالب، باستثناء ما أمر الله -تعالى- به رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالإعلان عنه. حيث كان النبي حريصًا على الجهر بالصلاة كما أمره الله، رغم أن مشركي قريش كانوا يعلمون أنه يجهر عمدًا دون أن يستطيعوا منعه، لذا لجأوا للاستهزاء به وزيادة الإيذاء.
- رغم تعرض عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- للأذى والضرب أثناء جهره بالقرآن، لم يؤثر ذلك على استمراره في التلاوة. وهذه كانت حال جميع الصحابة -رضوان الله عليهم-، إذ كانوا يتعرضون للإيذاء لكنهم لم يتوقفوا عن الدعوة، بل استمر الإسلام في الانتشار.
- كان يسمع الكافرون تلاوة المسلمين للقرآن، مما يثير غضبهم، وخاصة عندما يزداد عدد من يدخلون الإسلام، فهم يدركون أن الدعوة إلى الله -تعالى- قائمة، مما كان يشكل مصدر إزعاج لهم. كان غضبهم الحقيقي نابعًا من القرآن نفسه الذي يجذب الناس صوبه.
مكانة عبد الله بن مسعود
عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هو من السابقين في الإسلام، إذ أسلم قبل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وعُرف بلقب “صاحب الستر والوساد والسواك”. توفي في العقد الثالث من عمره، وتم دفنه في البقيع. كان يقدم خدماته للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بجلب السواك له، وكان معروفًا بين الصحابة بمهام السواك.
كما كان عبد الله -رضي الله عنه- يرعى أغنام عقبة بن أبي معيط قبل إسلامه، وفي إحدى المرات مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر -رضي الله عنه-، فطلب منه النبي أن يسقيه من اللبن، فأخبره أنه مؤتمن فقط على الأغنام. فوُجه إليه الرسول أن يحضر له واحدة من الأغنام التي جف ضرعها. وعندما فعل ذلك، دعا النبي على ضرعها، فأتى اللبن وشربه النبي وأبو بكر وعبد الله -رضي الله عنهم-، ثم أمر بأن يجف جف. فقال له عبد الله: “علمني من هذا القول”. فرد عليه النبي قائلاً: “إنك غلامٌ مُعلَّمٌ”. وقد دهش عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه- مما رأى، ولم يكن يدرك حينها أنه أمام واحدة من المعجزات العديدة التي سيشهدها في المستقبل، ولم يكن يعلم أنه سيصبح أحد أعلام الإسلام الذين سيهزمون الكافرين من قريش.
كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مشهورًا بين الصحابة بفهمه وفقهته وورعه، ولم يُعرف أحد من الصحابة بمثل مكانته. وقد شهد بعضهم بذلك أمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، حيث قالوا: “ما رأينا رجلًا أجمل خلقًا، وأرحم تعليمًا، وأفضل صحبة، وأكثر ورعًا من عبد الله بن مسعود”. وكان لعبد الله -رضي الله عنه- منزل خاص عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث أذن له بالدخول في أي وقت، حتى لقب بصاحب السرّ، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكن له حبًا خاصًا، فقال: “لو كنت مؤمّرًا على أمتي أحدًا دون مشورتهم لأمرت ابن أم عبد”. وعندما صعد عبد الله -رضي الله عنه- شجرة، وضحك الصحابة من نحافته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ما تضحكون، لَرِجْلُ عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أُحد”.
إيذاء قريش للنبي وأصحابه
قسم المؤمنون بدعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى فئات متعددة، ولم ينجُ أي صنف منهم من أذى قريش وعذابها. وكان من بين أكثر الناس تعرضًا للتعذيب المستضعفين من المسلمين؛ حيث عانت قريش هؤلاء بأشكال متعددة من التعذيب التي يصعب على الإنسان تحملها. أما أصحاب المكانة العالية، فقد نالوا حماية أقوامهم، ومع ذلك تعرضوا للأذى. وكان المستضعفون يحملون العذاب على أيدي سادات قريش؛ حيث كانوا يرتدون الحديد ويبقون تحت الشمس الحارقة، ثم يطوفون بهم في أزقة مكة. بينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- غير قادر على حمايتهم، لكنه كان يخفف عنهم آلامهم، ويذكرهم بالأجر والنعيم الذي ينتظرهم نتيجة صبرهم. وكذلك يذكر لهم قصص الذين سبقوهم وما تعرضوا له من الأذى، ويعدهم بنصر الله -تعالى- لهم على أعدائهم، مما كان يمدهم بالقوة لتحمل الابتلاء، حتى تحقق وعد الله -تعالى- في نصرهم.