نزول القرآن الكريم
المكان الذي نزل فيه القرآن الكريم
يعود نزول القرآن الكريم إلى مرحلتين رئيسيتين؛ المرحلة الأولى تتعلق بنزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، في حين أن المرحلة الثانية تتعلق بنزوله من السماء الدنيا إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-. أما النزول الأول فقد حدث دفعة واحدة، وينسب إلى ليلة القدر في شهر رمضان كما يتضح من قوله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ). ولدى العرب، تُستخدم كلمة “الإنزال” للإشارة إلى ما يُنزل دفعة واحدة. وبالتالي، فإن هذه المسألة تدعمها الأخبار الصحيحة التي تشير إلى الغالبية، ولا تتطلب أدلة قاطعة كما هو الحال في مسائل الإيمان.
آراء العلماء حول مراحل نزول القرآن
تعددت آراء العلماء بشأن نزول القرآن الكريم، وفيما يلي بعض التفاصيل:
- الرأي الأول: يذهب بعض العلماء إلى أن النزول الأول من اللوح المحفوظ إلى الأرض حدث دفعة واحدة، وفقاً لقوله -تعالى-: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، بينما النزول الثاني تم ببطء إلى رسول الله. استندوا في ذلك إلى قول ابن عباس -رضي الله عنه-: “أُنزِل القرآن جملةً واحدةً إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أُنزِل بعد ذلك على مدى عشرين سنة”. ويعتبر هذا الرأي شائعاً ومعتمداً بين معظم العلماء.
- الرأي الثاني: يعبر عنه الشعبي ومحمد بن إسحاق، حيث يؤكدان أن القرآن بدأ نزوله في شهر رمضان من ليلة القدر، ثم تتابع ظهور الآيات على رسول الله، مستندين إلى قوله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ).
- الرأي الثالث: يعرّف الفخر الرازي وابن جريج ومقاتل بن حيان في رأيهم أن القرآن نزل على مرحلتين من المُنجّم فيه، الأولى كانت في ثلاث وعشرين ليلة، حيث كانت الآيات تُنزل كل ليلة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة، ثم كانت المرحلة الثانية للنزول على النبي على مدى ثلاث وعشرين عاماً. ويشمل هذا الرأي قول الحليمي في كتابه المنهاج، حيث ذكر أن جبريل كان يُنزل من اللوح المحفوظ ما ينزل به إلى النبي في كل سنة.
- الرأي الرابع: يطرحه الماوردي، حيث اعتبر أن القرآن أُنزل جملةً واحدة في ليلة القدر إلى الملائكة الكاتبين، ثم أنزلت الملائكة المنجّمة في عشرين ليلة. وقد أشار ابن حجر وابن العربي إلى رفض هذا الرأي، حيث نزلت الآيات على النبي بغتةً في يوم الاثنين من شهر رمضان بينما كان يتعبد في غار حراء.
الحكمة من نزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا
أراد الله -تعالى- أن ينزل القرآن جملةً إلى بيت العزّة ليظهر عبقريته ومكانته ومكانة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي نزل عليه، وإعلام الملائكة بنزول الكتاب السماوي الأخير للأطهر من المخلوقات. إن إنزاله في بيت العزّة يمثل تكريماً وإعزازاً، مما يدل على مكانته العظيمة. وقد شارك القرآن الكريم الكتب السماوية الأخرى بالنزول مرّة واحدة، لكنه تميز أيضًا بالنزول المنجّم، مما يعكس تفضيل الله للنبي محمد. لو لم يكن إرادة الله في نزوله مفرّقاً حسب الوقائع التاريخية، لكان نزل دفعة واحدة كما فعلت الكتب السابقة. وقد أشار السخاوي في كتابه جمال القرّاء إلى أن هذا الإنزال يُعد تكريماً للإنسانية وإظهارًا لرعاية الله ورحمته.
الحكمة من نزول القرآن مفرّقا على النبي
أنزل الله القرآن مفرّقاً على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لتعزيز قلبه وتمكينه من مواجهة مختلف التحديات. في كل مرة ينزل فيها الوحي، يجد النبي تجديدًا للعهد وفرحًا في قلبه. يشمل ذلك التحديات التي كان يواجهها من المشركين، حيث كانت الآيات ترد على أسئلتهم. كما أن نزول القرآن بالتدريج قد سهل حفظه وفهمه، إذ أن الأمة كانت أمية وتعتمد على الذاكرة. إذ جاء في قوله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). وقد تجلى ذلك أيضًا من خلال التفاعل مع الأحداث الجارية وتوجيه المسلمين. نزول الآيات كان دليلاً على قبول الله لتوبتهم، مثل الآيات التي ظهرت أثناء تخلّف البعض عن غزوة تبوك.
إرادة الله تطلبت نزولا مفرقا كما جاء في قوله -تعالى-: (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ)، وذلك لتقوية قلب النبي من خلال الآيات. كما أن نزول القرآن دفعة واحدة يتناقض مع أهداف الإصلاح والوحي، حيث يتطلب التغيير التأنّي والصبر. إن التوجيه المقدم على مدى ثلاث وعشرين عامًا كان واضحًا ومعبرًا عن الهدف النبوي لإرساء الإسلام وتعزيز أسس الدين. وقد أدرك الصحابة والشخصيات التاريخية هذه الحكمة، كما روت عائشة -رضي الله عنها-، حيث أكدت أن أولى السور التي نزلت كانت موجهة لتعليم العقائد، وفقط بعد استقرار الإسلام نزلت الآيات المتعلقة بالحلال والحرام.
كما أن الآيات كانت تبشر النبي بالنصر وتثري قلبه بالصبر، حيث كانت تُذكره بأخبار الأمم السابقة وأحوالهم، ما يساعده في استمرارية دعوته رغم الصعوبات. الآيات أيضًا كانت تعمد إلى تصحيح المعتقدات الباطلة، مثل تحريم الكحول في مراحل تدريجية. هذا يظهر بوضوح في تباين موضوعات السور المكية والمدنية، حيث تركز الأولى في العقائد بينما تهتم الثانية بأحكام الدين. إن نزول القرآن مفرّقًا يؤكد قدرتها على استجابة التحديات، حيث لم يستطع المعارضون تقديم مثل القرآن حتى بعد أن كانوا يتمنون ذلك، مما يعكس تكوّنه ككتالٍ عظيم ومتكامل.