أعمال الشاعر الفلسطيني محمود درويش الشعرية

البنتُ / الصرخة

على شاطئ البحر، كانت هناك بنتٌ ولها عائلة.

تعيش العائلة في منزل يحتوي على نافذتين وباب.

في عمق البحر، توجد بارجة تتسلّى

بصيد المشاة على الشاطئ:

أربعة، خمسة، سبعة

يسقطون على الرمل، بينما تنجو الفتاة قليلاً

لأن يداً غامضة

أوحت إليها بحماية إلهية، فسألت: أبي

يا أبي! قم لنعود، فالبحر ليس لأمثالنا!

لم يرد عليها والدها المُسجى في ظلٍ منسي.

دُماءٌ في النخيل، ودماءٌ في السحاب.

يتسلل الصوت عالياً وأبعدَ من

شاطئ البحر، تصرخ في ليلٍ برّي،

لا صدى للصدى.

فتصبح هي الصرخة الأبدية في خبرٍ

عاجلٍ، لم يعد كذلك عندما

عادت الطائرات لقصف البيت ذي النافذتين والباب!

أبعد من التماهي

أجد نفسي جالساً أمام التلفزيون، إذ ليس بوسعي

فعل أي شيء آخر هناك، أمام الشاشة.

هنا أكتشف مشاعري وأراقب ما يحدث لي.

الدخان يتصاعد مني وأمد يدي المقطوعة

لأمسك بأجزائي المبعثرة من أجسادٍ متعددة.

لا أجد شيئاً لأهرب منه برغم جاذبية

الألم. أنا المحاصر من جميع الجهات.

اللغة أقلعت مع آخر طائرة من مطار بيروت.

والآن، أجد نفسي أمام التلفزيون، أراقب ما تبقى من موتي

مع ملايين المشاهدين دون دليلٍ على وجودي.

حين أفكر مع ديكارت، ينهض مني القربان.

الآن، في لبنان، أختلط بالتلفزيون، أنا والوحش. أعلم أن الوحش

أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر، لكنني

أدمنت، ربما أكثر مما ينبغي على بطولة المجاز:

الوحش التهمني لكن لم يبتلعني، وخرجت سالماً.

في أوقاتٍ سابقة، كانت روحي تطير شعاعاً

مني ومن أحشاء الوحش إلى جسدٍ آخر

أخفّ وأقوى، لكنني لا أعرف أين أنا

الآن: أمام التلفزيون أم في داخله؟

أما القلب، فأراه يتدحرج، ككوز صنوبر،

من جبل لبناني إلى رفح!

ماذا… لماذا كلُّ هذا؟

يُحاكي نفسه، وهو يمشي وحده، بحديثٍ

قصير لا يحمل دلالات مهمة،

ولا يسعى للدلالة على شيء: ماذا؟ لماذا

كل هذا؟ لم يكن يهدف للشكوى أو

التساؤل، أو تكرار الكلمة لتوليد

إيقاع يساعده على السير بخفة.

لكن هذا ما حدث. كلما كرر: ماذا

لماذا كل هذا؟ شعر وكأنه برفقة

صديق يساعده في حمل الطريق. نظر

إليه المارة بلا اهتمام. لم يظن أحد أنه

مجنون. اعتقدوه شاعراً حالماً يتلقى

وحياً مفاجئاً. أما هو، فلم

يتهم نفسه بما يسيء إليها. ولا يعرف

لماذا فكّر بجنكيز خان. ربما لأنه رأى

حصاناً بلا سرج يطفو في الهواء، فوق

بناية مهدّمة في قلب الوادي. واصل

المشي على إيقاعٍ واحد: ماذا… لماذا

كل هذا؟ وعندما اقترب من نهاية

الطريق الذي يسير عليه كل مساء، رأى

عجوزاً يستند على شجرة أكاليبتوس،

يسند عصاه على جذعها، يحل أزرار سرواله

بيدٍ مرتجفة، ويبوّل قائلاً: ماذا… لماذا

كل هذا؟ ولم تكتفِ الفتيات الخارجات من الوادي بالضحك على العجوز،

بل رشقنه بحبات من الفستق الأخضر!

وجوه الحقيقة

هل الحقيقة أنثوية رمزية

عندما يختلط الماء بالنار

في تشكيلها؟

والحقيقة نسبية

عندما يختلط الدم بالدم

في ظلام ليلها؟

والحقيقة ناصعة البياض

عندما تسير الضحية

مبتورة القدمين

ببطء.

و”الحقيقة شخصية”

في القصيدة،

مجهولة الملامح

أو عكسها،

إنها ما يتساقط من ظلها!

ذباب أخضر

المشهد هو هو. صيفٌ وعَرَق، وخيال

يعجز عن رؤية ما يتجاوز الأفق. اليوم

أفضل من الغد. لكن القتلى هم الذين

يعيشون. يُولَدُون كل يوم. وحين يحاولون

النوم، يُسحبهم القتل من نعاسهم إلى حلم بلا واقع.

لا أهمية للعدد، ولا أحد

يطلب المساعدة من أحد. أصواتٌ تبحث عن

كلمات في البرية، ليعود الصدى واضحاً

جارحاً: لا أحد. لكن هناك من يقول:

(“من حق القاتل الدفاع عن غريزة

القتل. أما القتلى، فيقولون متأخرين:

من حق الضحية الدفاع عن حقها في

الصراخ.”). يتعالى الأذان صاعداً من وقت

الصلاة إلى جنازات متشابهة: توابيتٌ

مرفوعةٌ على عجل، تدفن على عجل… إذ لا

وقت لإكمال الطقوس، فهناك قتلى آخرين

قادمين، مسرعين، من غاراتٍ أخرى. قادمون

فرادى أو جماعات… أو عائلة واحدة

لا تترك وراءها أيتاماً أو ثكالى. السماء رماديةٌ

رصاصية، والبحر رمادي أزرق. أما لون

الدم، فقد حجبه عن الكاميرا أسرابٌ من

ذباب أخضر!

حمام

رف من الحمام يظهر فجأة من خضم الدخان.

يتلألأ كشرارة سلام سماوي. يحلق بين الرمادي

وفتات الأزرق فوق مدينة من الركام. يذكرنا

بأن الجمال لا يزال موجوداً، وأن اللاحقيقي

لا يعبث بنا تماماً عندما يعدنا، أو نظن أنه

يعدنا بتجلّي اختلافه عن العدم. في الحرب

لا يشعر أحد منا بأنه مات إذا أحس بالألم.

الموت يسبق الألم. والألم هو

النعمة الوحيدة في الحرب. ينتقل من حيّ إلى

حيّ مع وقف التنفيذ. وإذا حالف الحظّ أحداً

نسيَ مشاريعه البعيدة، وانتظر اللاحقيقي

وقد وُجد مُحلّقاً في رف الحمام. أرى في سماء

لبنان كثيراً من الحمام التنائي بدخان يتعالى

من جهة العدم!

Related Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *