فهم أصل الكون وفقًا للفلاسفة الطبيعيين

أصول الكون من منظور الفلاسفة الطبيعيين

استحوذ الفلاسفة الطبيعيون على الصدارة في التفكير الفلسفي حول وجود الكون وأصوله، حيث اعتمدوا في استنتاجاتهم على الظواهر الطبيعية من حولهم. وقد نتج عن ذلك ظهور تيارات فلسفية تعرف بفلاسفة ما قبل سقراط، والذين اتفق أغلبهم على أن الوجود له أصل مادي بعيد عن المثاليات والوعي. عرف هؤلاء الفلاسفة بالفلاسفة الطبيعيين الأوائل، مما يضفي طابعًا علميًا على أفكارهم. معظم هؤلاء المفكرين كانوا من أصول يونانية، حيث تعتبر اليونان مهد الفلسفة، ولذا يُعتبر تاريخ الفلسفة مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا باليونان.

أصل الكون عند الفيلسوف طاليس

يُعتبر طاليس الملطي (624-547 ق.م) أول فيلسوف طبيعي يتناول موضوع أصل الكون، ويُعتبر أيضًا أول الفلاسفة في تاريخ الفلسفة. وبالنظر إلى الطبيعة المحيطة به، افترض طاليس أن أصل الكون يكمن في الماء. ومن اللافت أن أطروحاته تتقاطع مع بعض المفاهيم الدينية، وقد يكون تأثر بتلك الأفكار. ومع ذلك، اعتبر الماء كمادة أولية أنطولوجية انبثقت منها العناصر الأخرى.

أشار طاليس إلى أن جميع الكائنات الحية، بما في ذلك الحيوانات والنباتات، تعتمد على الماء كمكون أساسي، مستندًا في ذلك إلى فكرة الرطوبة. وقد أكد طاليس أن كل ما يتغذى على شيء سيعود إليه حتميًا، فالحيوانات تتكون من الرطوبة وتبدأ حياتها من خلالها. وهكذا، يأتي استنتاج طاليس بأن الماء هو العنصر الأساسي، كنتيجة لتأملاته في الطبيعة ودورة حياة الكائنات.

أصل الكون عند الفيلسوف أنكسيمندريس

يُعتبر أنكسيمندريس أحد طالبة طاليس، واهتم بأبحاثه بالطبيعة والأدوات التي تستخدم للتعرف على الأرض ودراسة النجوم. رأى أن الأرض محاطة بمحيط مائي، وهي وجهة نظر تتعلق بخلفيته المعيشية في الجزر. وعارض فكرة طاليس التي تقول بأن الماء هو أصل الكون، ليطرح فكرة المادة الأساسية التي تتمثل في “اللامتناهي”. وأوضح ذلك من خلال معنيين:

  • من حيث الكيف، بوصفها مادة غير متعينة.
  • من حيث الكم، بما أنها لا محدودة.

اعتبر أنكسيمندريس أن هذه المادة هي مزيج من الأضداد (مثل الحار والبارد) والتي كانت مختلطة في البداية قبل أن تنفصل بفعل الحركة. ووفقًا لرأيه، فإن الحركة تؤدي إلى توزيع العناصر. فدرجة الحرارة العالية تنطلق للأعلى مكونة بخاراً، بينما تؤدي الرواسب إلى تكوين الأرض.

فسر أنكسيمندريس تكوين الأشياء من خلال الحركة بشكل آلي، مشيرًا إلى أنه عندما تتجمع العناصر وتتفكك بفعل الحركة، تتطور الكائنات دون حاجة لسبب خارجي أو غرض محدد. وقد ساعدت أفكاره في تكوين نظريات علمية حديثة استند إليها العلماء لاحقًا، مثل لابلاس في علم الأحياء.

أصل الكون عند الفيلسوف أنكسيمانس

أنكسيمانس هو الآخر من تلامذة أنكسيمندريس، وعاد بمفاهيمه لفكرة طاليس، حيث اعتقد أن الأرض مسطحة وأن الشمس لا تتحرك ليلًا. ولفت نظره أن المادة الأولى حسية ومتجانسة، ولكي تكون هذه المادة غير ممكنة أن تكون الماء، فقد افترض أن الهواء هو المادة الأولية. واعتبر أن الهواء يحيط بالأرض من جميع الجهات ويتميز بعدم محدوديته، مما يجعله أكثر لا تناهيًا من الماء.

أما بقية الكائنات، فهي تتشكل من خلال التخلخل والتكاثف، حيث تتسبب تخلخلات ذرات الهواء في إنتاج النار، في حين أن تكاثف الهواء يؤدي إلى تكوين السحب والمطر، وتكاثف الماء ينتج عنه تراب وصخور بعد فترة. وهكذا استبدل أنكسيمانس “اللامتناهي” الذي يشكل مزاج الأشياء بالهواء، موضحًا فكرة التخلخل والافتراق كبديل لفكرة الحركة.

أصل الكون عند الفيلسوف هيراقليطس

يمكن تلخيص آراء هيراقليطس في أصل الكون من خلال مفهوم التغير، إذ اعتبر أن الأشياء والموجودات تتغير باستمرار. وكان له قول مشهور في هذا السياق: “أنت لا تترك في مياه النهر نفسه مرتين، لأن المياه الجديدة تحل محل القديمة”. ورغم اعتقاده بأن النار هي العنصر الأول في حال إمكانية اختصار العناصر إلى عنصر واحد، إلا أنه أصر على أن الأصل هو الحركة.

وفقًا لهيراقليطس، فإن الثبات يُعتبر انتفاءً وحياة للعالم، وعمليّة التغير تحدث من خلال الصراع بين الأضداد، حيث يحل أحدهما مكان الآخر. هذا المبدأ لا ينطبق فقط على الطبيعة والأشياء المادية، بل يمكن تطبيقه أيضًا على رغبات الإنسان واحتياجاته. بالنسبة له، لولا المرض لما قدر الإنسان أهمية الصحة، مما يشير إلى أن القيمة تدرك من خلال النقيض.

من المهم الإشارة إلى أن النار التي اعتقد هيراقليطس أنها تمثل أصل الكون ليست النار المادية، بل هي تعبير عن “النار الإلهية” التي تُعتبر أثيرية وعاقلة وتصبح محسوسة في وقت لاحق.

Related Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *