قصيدة جنازة المرح
تطرقت الشاعرة نازك الملائكة إلى موضوع الحزن في قصيدتها:
سأغلق نافذتي لأن النور
يُفسد ليلتي العميقة
سأسدل هذا الستار السميك
على صفحة القصة العتيقة
وسأطرد صوت الرياح الباهت
وإشعاع النجوم المتجهمة
سأستند برأسي إلى الذكريات
وأغمس عينيّ في دمعتين
وأبعث حبي ليغمر الفقيد
ويدفئ جبينه الهامد
علّني أستطيع أن أعيده للحياة
وأن أمحو عن شفتيه زرقة الموت
سأغلق نافذتي؛ فالفقيد
يحب ظلمة الليل الضاربة
وأنا أكره أن يتسلل النور
على جسده الهامس العاطفي
على جبهة قد زينتها النجوم
وأضأت حياتها بتلألؤ أسطوري
لكنها عادت لتنبذ الحزن والموت والعذاب
تتساقط عليها أيادي الفناء
أساطير من عهد بعيد
ألتفت عليها بيدي فأشعر
بالخوف يسقط فوق التراب
سأغلق نافذتي فالأحداث
لا تنتهي بشعورها المتجذر
تغمر برودتها القاسية كل شيء
ويضجّ وجهها الغاضب في سخرية
يلاحقني صمتها الخالد
ويكظرني لونها العابس
وأين المهرب؟ تكاد الستائر
تغزو غرفتي المظلمة
وأين الهروب؟ فوجه الفقيد
يخيفني بشحوبه
إنه الفقيد أمامي والليل
وراء ظهري. يا لملاحقة الألم!
سأتحمل حتى يأتي الليل
ويغيب النور خلف الوجود
فأحمل هذا الفقيد البريء
إلى جحيم من كهوف المساء
أسير بجثته موكبا
بخطى بطيئة كليالي الشتاء
وترافقني شهقات الذكريات
المثقلة في حنين وكآبة
عرفت الجبين وعرفت الشفاه
وهذه العيون الحزينة
عرفت بها وجه حزني المدفون
وقد عاد يحمل جراحي القديمة
وفي يده خنجرا لم يزل
مغمسًا في دم ماضي المؤلم
تعرفت على العدو المتربص هناك
يمشي خلف الموكب
يحدق مستهزئًا بالفقيد
يضحك ضحكة مشؤومة
نعم، إنه هو.. أعرفه جيدا
فكم مرة قد مرّ بي
ورأيت خلفي آلاف الأطياف
الأليمة المحاطة بالدموع
عرفت الضحكات التي
عشتها لتواجه ضربات الحياة
فهل هذه حقًا ضحكاتي؟ هل هي
عودة لوجه حزين ومفجوع؟
هل هذه إذن ضحكاتي، هذا هو
نهاية ما رسمت من بهجة؟
وهذا الفقيد، حقًا بفقداني له
فقدت مرحي المدفون؟
قصيدة فلسفة الجراح
يتساءل الشاعر عبد الله البردوني:
مما أنا متألم؟
حار السؤال، وانسدل الفهم
ماذا أشعر؟ آه، حزني بعضة
يشكي فأعرفه وبعضه غامض
في داخلي ما أعلم من الألم الدائم
وعندي أيضاً حرقة لا أعلم
في روحي جراح لا أدري، وفي
صدري مضاعفات لم أتخيلها
وكأن روحي شعلة متحفزة
تسري وتشتعل بما تشتعل
وكأن قلبي في الضلوع جنازة
أمشي بها وحدي وكلّي مأتم
أبكي وتبتسم الجراح في حلي
فكأنها في كل جارحة فم
يا لابتسامة الجرح.. كم أبكي وكم
ينساب الدم على شفاهه الحمراء!
أبداً أسير على الجراح وأنتهي
حيث ابتدأت، فأين منتهاي؟
أصارع الحياة وأرنو لصفائها
لكن كما يهيم الكلام الأبكم
وأبارك الأم الحياة؛ لأنها
أمي، والمرارة جزء منها
حرماني هاجس لي، لكنني
أحلم بحياة آمنة ناعمة
والمرء إذا أتعسه شؤمه
فينال السعادة في الخيال
وأنا وحدي أعيش الهموم، ولا
تغادرني الوحدة
بحرمانها مملوءة وبيئة تزدحم
لكنني أحب الهموم؛ لأنها
فكر أفسر صمتها وأترجم
أحب الحياة بكل زهورها وأحزانها
وأرعى أبناء الحياة وأتعاطف
وأكتب “فلسفة الجراح” بأناشيد
أصدح بها مثل العصفور، وأؤلم المعاناة
تَرجُو السَّعادةَ يا قلبي ولو وُجِدَتْ
يقول أبو القاسم الشابي:
تَرجُو السَّعادةَ يا قلبي، إن وجدتْ
في الوجود لم يشتعل حزن ولا ألم
ولا تحولت حياة الناس جميعا
وازدادت هزات الكون والنظم
فما السعادة في الدنيا إلا حلم
دائم التضحية في أطوار الأمم
تداعى بها البشر أوهام غالبة
عندما شبهتهم الأحلام والدروس
فهبت كل مجموعة تناديه ويمسكون
كأنهم لم يناموا ولم يحلموا
خذ الحياة كما تأتيك مبتسمًا
في كفها الفرح أو في كفها الفراغ
وارقص على الورد والأشواك متئداً،
غنت لك الطيور، أو نادت لك الدلالات
وافعل كما تعبر الحياة بلا تضايق
واكتظ شعورك فيها، انها صنم
فمن عانى لم ترحم معاناته
ومن تجلد لم تستهزأ به الجبال
هذي سعادة دنيانا، كن رجلًا
-إن أردتها- أبدا الأبد يبتسم!
وإن أردت قضاء حياتك في سكون
شعرية لا تغشى صفوها ندم
فاترك العوالم دنياهم وضجيجهم
وما بنوا من نظام العيش أو رسموا
اجعل حياتك بستاناً مفعمًا
في عزلة الغابة ينمو ثم يختفي
واجعل لياليك أحلامًا عاشقة
إن الحياة وما تدور به حلم!
قصيدة إنَّ الحياة صِراعٌ
يقول أبو القاسم الشابي:
إنَّ الحياةَ صراعٌ
فيها الضّعيف يواجه الدوس
ما نال في ماضيها
إلا شديد المراس
فيها شجون خفية
فكن فتى الاحتراس
الكون هو شفاء
الكون هو التباس
الكون هو اختلاق
وضجّة واختلاس
سواء عندي فيه
السرور والضياع
بين النوائب بون
للناس فيه مزايا
بعضهم لم يميز سوا
البلى ينادي البلايا
وبعضهم لم يجرب منها
سوى خيبات الرزايا
إنَّ الحياة سُباتٌ
سينتهي بالمنايا
وما الرؤى فيها سوى
آمالنا والخطايا
فإن استيقظت كانت
بين الجفون جزءاً من الذاكرة
إنَّ السكينة تنبض في
الليل التي لا تُضام
والروح شعلة نورٍ
من فوق كل نظام
لا تنطفئ رياح الفشل
أو بالسيف العملاق
كل البلايا.. جميعاً
تفنى، وتحيى السلام!
والذل عار لا تقره الكرام!
الفجر يسطع بعد الظلام،
ويأتي الضوء
ويرقد الليل لمغفرة
على مهد الصفاء.
وللشعوب حياةٌ
يسعى وحينا فناء
واليأس موت، لكنه
موت يثير الشقاء
والجدّ للشعب روحٌ
تُحيله للهناء
فإن انقضت وقد وقع
حياتهم من عقاب.