ألا فاسقني خمراً وقل لي: هي الخمر
في هذه القصيدة، يبرز أبو نواس جمال الخمر:
ألا فاسقني خمراً، وقل لي: هيَ الخمرُ،
ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ.
فما العيشُ إلا سكرةٌ بعد سكرةٍ،
فإن طال هذا عندهُ قصرَ الدهرُ.
وما الغبنُ إلا أن ترىًني صاحياً،
وما الغنمُ إلا أن تُتعـتعني السكرُ.
فَحُبّ باسْمِ من تهوى، ودعني من الكنى،
فلا خيرَ في اللذّاتِ من دونها سِتْرٌ.
ولا خيرَ في فتكٍ بدونِ مجانة؛
ولا في مجونٍ ليس يتبعُه كفرُ.
بكلّ أخي فتكٍ كأنّ جبينَه،
هِلالٌ، وقد حَفّتْ به الأنجمُ الزهرُ.
وخمارَةٍ نبّهتُها بعد هجعةٍ،
وقد غابت الجوزاء، وارتفعَ النسرُ.
فقالت: من الطرّاق؟ قلنا: عصابةٌ،
خفافُ الأداوى يُبتغى لهم خمرُ.
ولا بدّ أن يزنوا، فقالت: أو الفدى،
بأبلَجَ كالدينار في طرفهِ فترُ.
فقلنا لها: هاتيه، ما إن لمثلِنا،
فديناك بالأهـليّنَ عن مثل ذا صبرُ.
فجاءت به كالبدر ليلة تمّ،
تخيل به سحراً، وليس به سحرُ.
فقمنا إليه واحداً بعد واحدٍ،
فكان به من صوم غربتنا الفطرُ.
فَبِتنا يرانا الله شَرَّ عِصابةٍ،
نُجَرّرُ أذْيالَ الفسوقِ ولا فخرُ.
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
في قصيدة أخرى، يردّ على لائميه لمعاقرة الخمر:
دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراءٌ،
وداويني بالتي كانت هي الداءُ.
صفراءُ لا تنزلُ الأحزان ساحَتها،
لو مسّها حجرٌ مسّتْهُ سرّاءُ.
من كف ذات حرٍ في زيّ ذي ذكرٍ،
لها محبان لوطيٌ وزناءُ.
قامت بإبريقها، والليل معتكرٌ،
فلاحَ من وجهها في البيت لألاءُ.
فأرسلت من فم الإبريق صافيةً،
كأنما أخذَها بالعين إغفاءُ.
رقّتْ عن الماء حتى ما يلائمُها،
لطافة، وجفا عن شكلها الماءُ.
فلَو مزَجْتَ بها نُوراً لَمَازَجَها،
حتى تولدَ أنوارٌ وأضواءُ.
دارت على فتيات دانَ الزمانُ لهم،
فما يُصيبُهُمُ إلاّ بما شاؤوا.
لتلك أبكي، ولا أبكي لمنزلةٍ،
كانت تحل بها هندٌ وأسماءُ.
حاشى لدرةً أن تُبنَى الخيامُ لها،
وأن تروحَ عليها الإبلُ والشياهُ.
فقل لمن يدّعي في العلم فلسفةً،
حفِظتَ شيئًا، وغابت عنك أشياءُ.
لا تحظر العفوَ إن كنتَ امرئً حرجاً،
فإنّ حظركه في الدين إزراءُ.
بك أستجير من الرّدى
في قصيدة كتبها وهو في السجن لمحمد أمين يستجيره:
بكَ أستجيرُ من الرّدَى،
وأعوذُ من سطواتِ باسِكْ.
وحياةِ رأسكَ لا أعُودُ
لمثلِها، وحياةِ رَاسِكَ.
مَنْ ذا يكونُ أبا نُوَا،
سِكَ إنْ قَتَلْتَ أبَا نواسِكَ؟
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
قبل وفاته، كتب في الزهد القصيدة التالية:
يا ربِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً،
فلقد عَلِمْتُ بِأَنَّ عفوك أَعْظَمُ.
إِنْ كَانَ لاَ يَرْجُوكَ إِلاَّ مُحْسِنٌ،
فَمَن الذي يَدْعُو ويَرْجُو المجرم؟
أَدْعُوكَ رَبِّ كما أمرت تَضَرُّعاً،
فَإِذَا رَدَدَّتَ يَدِي فمن ذا يَرْحَمُ؟
مَالِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا،
وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ.
لقد طال في رسم الديار بكائي
في وصف الخمرة واللهو، قال:
لقد طال في رسم الديار بكائي،
وقد طال تردادي بها وعنائي.
كأنّي مُريغٌ في الديار طريدةً،
أراها أمامي مرةً، وورائي.
فلما بدى لي اليأسُ عدّيتُ ناقتي،
عن الدار، واستولى عليّ عزائي.
إلى بيتِ حانٍ لا تهرّ كلابُهُ،
عليّ، ولا يُنكِرْنَ طول ثوائي.
فإن تكن الصهباءُ أوْدَتْ بتالِدي،
فلم توقِني أُكرُومَتي وحيائي.
فما رِمتهُ حتى أتى دون ما حَوتْ،
يَمينيَ حتّى رَيْطَتي وَحِذائي.
وَكأسٍ كمِصْباحِ السّماءِ شرِبْتُها،
على قُبْلةٍ أو موْعدٍ بلِقائي.
أتتْ دونها الأيامُ، حتى كأنّها،
تساقطُ نورٍ مِنْ فُتُوقِ سَمَاءِ.
ترى ضوءها من ظاهر الكأسِ ساطعاً،
عليكَ، وإنْ غَطّيْتَها بغطاءِ.
تباركَ من ساسَ الأمورَ بعلمه،
وفضّلَ هاروناً على الخلفاءِ.
نعيشُ بخيرٍ ما انطوينا على التقى،
وما ساسَ دنيانا أبو الأُمناءِ.
إمامٌ يخافُ اللهَ، حتّى كأنّهُ،
يؤمّلُ رؤياهُ صباحَ مساءِ.
أشَمُّ، طُوَالُ الساعدينِ، كأنّما،
يُناطُ نِجادَ سيْفِهِ بلواءِ.
ولا تأخذ عن الأعراب لهواً
في قصيدة أخرى يصف فيها الخمر:
دعِ الأَطلالَ تَسفيها الجَنوبُ،
وتُبلي عهدَ جديدةٍ الخطوبُ.
وخلّ لراكبِ الوجناءِ أرضاً،
تخبّ بها النّجيبة والنجيبُ.
بلادٌ نبتُها عُشَرٌ وطَلْحٌ،
وأكثرُ صيْدِها ضَبُعٌ وذيبُ.
ولا تأخذ عن الأعراب لهواً،
ولا عيشاً فعيشُهم جدبُ.
دعِ الألبانَ يشربُها رجالٌ،
رقيقُ العيشِ بينهُم غريبُ.
إذا رابَ الحليبُ فبلّ عليهِ،
ولا تُحرَجْ فما في ذاك حوبُ.
فأطيبُ منه صافيةٌ شمولٌ،
يطوفُ بكأسها ساقٍ أديبُ.
يسعى بها، مثل قرنِ الشمس، ذو كفلٍ،
يشفي الضجيعَ بذي ظَلْمٍ وتشيبيبِ.
أقامتْ حقبةً في قَعْرِ دَنٍّ،
تفورُ، وما يُحسُّ لها لهيبُ.
كأنّ هديرَها في الدنّ يحكي،
قراءةَ القسّ قابلَهُ الصّليبُ.
تمدّ بها إليكَ يدَا غُلامٍ،
أغنّ، كأنّهُ رَشأٌ رَبيبُ.
غذّتهُ صنعةُ الداياتِ حتّى،
زها، فزها به دَلٌّ وطيبُ.
يجرّ لكَ العِنانَ، إذا حساها،
ويفتحُ عقد تكّته الدّبيبُ.
وإن جَمّشْتهُ خَلَبَتْكَ منهُ،
طرائفُ تُستخفّ لها القلوبُ.
ينوءُ برِدْفهِ، فإذا تمشّى،
تَثَنّى، في غلائلِهِ، قضيبُ.
يكادُ من الدّلالِ، إذا تَثَنّى،
عليكَ، ومن تساقطهِ، يذوبُ.
وأحمقَ من مغيّبةٍ تـراءى،
إذا ما اخْتانَ لَحْظَتَها مرِيبُ.
أعاذلَتي اقْصُري عن بعضِ لوْمي،
فراجي توبتي عندي يخيبُ.
تَعيّبين الذّنوبَ، وأيّ حُرٍّ،
مِن الفتيانِ، ليسَ له ذنوبُ.
فهذا العيشُ لا خيمُ البوادي،
وهذا العيشُ لا اللبن الحليبُ.
فأيْنَ البدوُ من إيوان كِسْرَى،
وأيْنَ منَ الميادينِ الزّروبُ؟
غرِرتِ بتوبتي، ولججْتِ فيها،
فشقّي اليوم جيبَكِ لا أتوبُ.